فصل: تفسير الآية رقم (19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَأْتِينَا‏}‏ كلمة ‏{‏لوما‏}‏ كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتحضيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين، ومنه قول ابن مقبل‏:‏

لوما الحياة ولوما الدين عبتكما *** ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى

وعن بعضهم أن الميم في ‏{‏لوما‏}‏ بدل من اللام في لولا، ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي صديقي‏.‏ وذكر الزمخشري أن ‏{‏عَلَيْهِمْ لَوْ‏}‏ تركب مع لا وما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلاً من اللام، وقال المالقي‏:‏ أن ‏{‏لوما‏}‏ لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق، وأياً ما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا ‏{‏بالملئكة‏}‏ يشهدون لك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ في دعواك أن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏مَا نُنَزّلُ الملائكة‏}‏ بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل، وهي قراءة حفص‏.‏ والأخوين‏.‏ وابن مصرف، وقرأ أبو بكر عن عاصم‏.‏ ويحيى بن وثاب ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة‏}‏ بضم التاء وفتح النون والزاي مبنياً للمفعول ورفع ‏{‏الملائكة‏}‏ على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة‏}‏ بفتح التاء والزاي على أن الأصل ‏{‏تَتَنَزَّلُ‏}‏ بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفاً ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي‏.‏ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏مَّا نَزَّلَ‏}‏ ماضياً مخففاً مبنياً للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية‏.‏ والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنياً للفاعل وهو ضمير الله تعالى و‏{‏الملائكة‏}‏ بالنصب على أنه مفعوله، واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره، ولعله رحمه الله تعالى قدسها‏.‏ وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم جواباً لهم عن مقالتهم المحكية ورداً لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد، ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ الخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلاً ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطأوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلا وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة والسلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهراً وهو غير ظاهر كما لا يخفى‏.‏

‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ أي إلا تنزيلاً ملتبساً بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الصفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناءً مفرغاً، وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول‏.‏ وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء الله تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ‏}‏ إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينتفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنزيلهم لأنها نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك؛ والمقصود نفى أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولاً والتصريح بضرره ثانياً، وقيل‏:‏ يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل‏:‏ ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذاً منظرين، وفي النفس من هذا ومما قبله شيء‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبساً بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجري به السنة الإلهية، والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلاً فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذاً مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل، وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم بازديادهم عذاباً وبإيمان بعض ذراريهم، ونظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد فما كانوا الخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا الخ‏.‏

واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلاً فلا يتم كلامه، وفيه بحث كما لا يخفى، وقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن مجاهد تفسير ‏{‏الحق‏}‏ هنا بالرسالة والعذاب، ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل‏:‏ المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لا يكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب، وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة، وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب، وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم، وأيضاً لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا آتيناهم ما اقترحوه، وفيه ما فيه، وقال الزمخشري‏.‏ المعنى إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذٍ مصدقون عن اضطرار، وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقية، ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أولاً قيله‏.‏ والبيضاوي جعل المنافي للحكمة إنزالهم بصور البشر حيث قال‏:‏ لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبساً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أريد أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقاً، وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ‏}‏ ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف، واختار بعضهم كون المراد من ‏{‏الحق‏}‏ الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل‏:‏ ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل‏:‏ فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 3‏]‏ وحاصل الجواب حينئذٍ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الاختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل، ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد ذلك بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم، وقيل‏:‏ في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لتعذيبهم‏:‏ إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلاً ملتبساً بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبساً بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة، وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل‏:‏ لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة، فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك، هذا ولفظة ‏{‏إِذَا‏}‏ قال في «الكشاف»‏:‏ جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا، وصرح بإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبين حمل ذلك على الدوام وتكلف له، وأبو علي على الغالب، وقد تتمحض للجواب عنده، وهي حرف بسيط عند الجمهور، وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف وأصلها إذاً الظرفية لحقها التنوين عوضاً من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب؛ وذهب الخليل إلى أنها حرف تركب من إذ وإن غلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذٍ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا‏.‏

وذهب أبو علي عمر بن عبد المجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطي كل واحدة منهما فيعطي الربط كإذا والنصب كان ثم حذفت همزة إن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين، والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد، وجعلوا من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 145‏]‏ الخ، ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك‏:‏ ليست إذاً هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذاً الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذٍ، وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره‏:‏ لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثاً وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً لكنها حذفت تخفيفاً وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذٍ، وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو ‏{‏إِذًا لأمْسَكْتُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 100‏]‏ وعلى الاسم نحو ‏{‏وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 42‏]‏ ثم قال‏:‏ وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ، وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن تنوين إذاً عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي، وقال الجوني‏:‏ وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال‏:‏ أنا آتيك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكر‏.‏

وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصاً إذا لم تقع ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه، وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر، وقد ذكرنا فيما مضى بعضاً من هذا الكلام فتذكر، ثم إنه تعالى رد إنكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلاه عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر‏}‏ أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لادعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنو الفعل للمفعول إيماءً إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ أي من أكل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى أن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان‏:‏ الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولاً أولياً، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه، وقال الحسن‏:‏ حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الإسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، ولم يحفظ سبحانه كتاباً من الكتب كذلك بل استحفظها جل وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظاً أولاً وآخراً، وإلى هذا أشار في «الكشاف» ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقاً لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني‏؟‏ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقاً لإثبات محفوظية الذكر أولاً وآخراً، وأجاب بأنه جيءَ به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور أما ما هو أن يكون دليلاً على أنه منزل من عند الله تعالى آية، فالأول وإن كان رداً كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظاً عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام، وذلك لأنه نظمه لما كان معجزاً لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالإعجاز كذا في «الكشف»‏:‏، وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر‏.‏

وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سبباً لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عز وجل، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكتاب‏.‏ واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا‏:‏ إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل‏.‏ واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجيب ما نقله عن أصحابه حيث قال‏:‏ قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه، ولعمري أن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد ‏{‏وَنَحْنُ‏}‏ ليس فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن، ويعلم مما قررنا أن ضمير ‏{‏لَهُ‏}‏ للذكر وإليه ذهب مجاهد‏.‏

وقتادة‏.‏ والأكثرون وهو الظاهر، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وأنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ والمعول عليه الأول، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا‏}‏ أي رسلاً كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه ‏{‏مِن قَبْلِكَ‏}‏ متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتاً لمفعوله المحذوف أي رسلاً كائنة من قبلك ‏{‏فِى شِيَعِ الاولين‏}‏ أي فرقهم كما قال الحسن‏.‏ والكلبي، وإليه ذهب الزجاج، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضاً ويتابعه، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار، والمناسبة في ذلك نظراً للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث أنه تابع أصغر ممن يتبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا‏.‏

ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولاً فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل إلى بدل ‏{‏فِى‏}‏ لم يظهر إرادة هذا المعنى، وقيل‏:‏ إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ‏}‏ حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن ‏{‏مَا‏}‏ لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين، وقال بعضهم‏:‏ إن الأكثر دخول ‏{‏مَا‏}‏ على المضارع مراداً به الحال وقد تدخل عليه مراداً به الاستقبال، وأنشد قول أبي ذؤيب‏:‏

أودي بني وأودعوني حسرة *** عند الرقاد وعبرة ما تقلع

وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

له نافلات ما يغب نوالها *** وليس عطاء اليوم مانعه غدا

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ ولعله المختار وان كان ماهنا على الحكاية، والمراد نفي أتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي اتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعاً أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها ‏{‏إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ كما يفعله هؤلاء الكفرة، والجملة كما قال أبو البقاء في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل، وتعقب جعلها صفة له باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان ‏{‏إِلا‏}‏ وتقدير العمل في النعت بعدها‏.‏

وجوز أن تكون نصباً على الاستثناء وان كان المختار الرفع على البدلية، وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل، وحيث كان الرسول مصحوباً بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ أي ندخله يقال‏:‏ سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت‏:‏ وقرىء ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ وسلك وأسلك كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر ‏{‏فِى قُلُوبِ المجرمين‏}‏ أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولاً أولياً، ومعنى المثلية كونه مقرورناً بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة، وحاصلة انه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدماً في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ‏}‏ الضمير للذكر أيضاً، والجملة في موضع الحال من مفعول ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ أي غير مؤمن به، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الالقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا، ويجوز أن تكون بياناً للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب، قال في الكشف‏:‏ وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ للاستهزاء المفهوم من ‏{‏يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 11‏]‏ فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ له أيضاً على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء، وقد ذهب إلى جواز ارجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية، وكذا الفاضل الجلبي، ولا يخفى أن بعد ذلك يغنى عن رده‏.‏ وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذا دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن، وجوز على هذا كون الجملة حالاً من ‏{‏المجرمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ ولا يتعين كونها حالاً من الضمير ليتعين رجوعه للذكر، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقوبه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم، وجعل الآية دليلاً على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم‏:‏ إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه، وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم‏:‏ الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال‏.‏

وفي الكشف بعد كلام ان رجع الضمير إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذوباً في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه؛ ولخص المعنى ههنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذباً لا أن التكذيب فعله سبحانه‏.‏

نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس‏.‏ والحسن تفسير ضمير ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ إلى الشرك، وإخراج هو‏.‏ وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية‏:‏ هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى ‏{‏الذكر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلاً يظهر له أثر قوى وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه‏.‏

وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باتعبار اللطف والإحسان‏.‏ وتعقب ذلك الشهاب بقوله‏:‏ لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم به، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاماً عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذباً به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية، ولا يخفى ما في ‏{‏كذلك‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ مما يناسب نون العظمة أيضاً وقد مر التنبيه عليه غير مرة‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَلَتِ‏}‏ مضت ‏{‏سَنَةٍ‏}‏ طريقة ‏{‏الاولين‏}‏ والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على الإضافة بمعنى في، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير ‏{‏نَسْلُكُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أي قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في اهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم، وإلى الأول ذهب الزجاج، وادعى الإمام أنه الاليق بظاهر اللفظ؛ وبين ذلك الطيبي قائلاً‏:‏ ان التعريف في ‏{‏المجرمين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 12‏]‏ للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدى في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه السلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه‏.‏

وفيه غفلة عن نغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال‏:‏ أراد أن موقع ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ إلى آخره موقع الغاية في الشعراء ‏(‏201‏)‏ أعني قوله تعالى هنالك ‏{‏حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ فانهم لما شبهوا بهم قيل‏:‏ لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافاً إلى ما أضيف إليه ينبىء عن ذلك أشد الأنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضاً بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحاً بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري منالمراد بالسنة مروى عن قتادة‏.‏ فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عنه أنه قال في الآية‏:‏ قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم‏.‏ وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم‏}‏ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين ‏{‏بَاباً مِنَ السماء‏}‏ ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل‏:‏ ‏{‏فَظَلُّواْ فِيهِ‏}‏ أي في ذلك الباب ‏{‏يَعْرُجُونَ‏}‏ يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده ظلوا لأنه يقال ظل يعمل كذا إذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأياماً كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروى عن الحسن وإليه ذهب الجبائي‏.‏ وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروى ذلك عن قتادة أيضاً أي فظل الملائكة الذين اقترحوا اتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏يَعْرُجُونَ‏}‏ بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَالُواْ‏}‏ لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا‏}‏ أي سدت ومنعت من الأبصار حقيقة وما نراه تحيل لا حقيقة له، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروى أيضاً عن ابن عباس‏.‏ وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان‏:‏ بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد‏:‏ السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء‏:‏

غناؤنا فيه ألحان السكور إذا *** قل الغناء ورنات النواعير

ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد ‏{‏سُكّرَتْ أبصارنا‏}‏ بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضمر ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر‏:‏

سكران سكر هوى وسكر مدامة *** أني يفيق فتى به سكران

والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في احساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري ‏{‏سُكّرَتْ‏}‏ بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنياً للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف ففيه فتح الكاف‏.‏

واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكراً إذا ركدت ويقال‏:‏ ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى‏.‏ وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا ‏{‏بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ‏}‏ قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب انهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وأن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا‏:‏ بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيراً فأورد عليه بأن ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ إنما تفيد الحصر في المذكور آخراً وحينئذ يكون المعنى ما نقدم وهو مبني على أن تقديم المقصور على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص انه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا‏:‏ إنما زيداً ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب‏:‏

صفاته لم تزده معرفة *** لكنها لذة ذكرناها

أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه‏.‏ نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك‏:‏ إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مذرداً وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لانفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك‏:‏ إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق‏:‏

أنا الذائد الحامي الذمار وإنما *** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

وان لم يذكر احتمل الوجوب طرداً للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظراً إلى المعنى والاتصال نظراً إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظياً اه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وان لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقاً وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقوم ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي‏.‏ وأبو حيان مع طائفة يسيرة من انلحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا‏:‏ إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله‏.‏ ووجه الشهاب الاضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه اضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن سترون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر بن المنير في المراد منها وجهاً بعيداً جداً فيما أرى فقال‏:‏ المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى وهم في مهلة وإمكان أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم‏}‏ الخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم‏:‏ إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعى ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلاً لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اه فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم أنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا‏}‏ الخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط‏.‏

وق ابن عطية‏:‏ انه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال‏:‏ وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها اصرار منهم وعتو اه؛ والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به، وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجاً مفعوله الأول، والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال‏:‏ جعلنا قصوراً في السماء فيها الحرس، وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام‏.‏

وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروى غير واحد عن مجاهد‏.‏ وقتادة أنها الكواكب من غير قيد، وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الأثنى عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم لدرجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلسي وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الانقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وان كان كل منها منتقلاً عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وان لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين، وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالأسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط موهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وانهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال‏:‏ الدبران مثلا عين الأسد‏.‏

وتعقب ذلك بقوله‏:‏ وهذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلى مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة‏.‏ الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلك الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة الله تعالى وقدرته عز وجل‏.‏

وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد‏.‏

وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلثمائة من فتوحاته ما منه إن الله تعالى قسم الفلك الأصلس اثنى عشر قسماً سماها بروجاً وأسكن كل برج منها ملكاً وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجوارى والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال، وقد قدس سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة، ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما تشهد به التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله‏.‏

‏{‏وزيناها‏}‏ أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الله تعالى‏.‏ نعم المرصود منها ألف ونيف وعشرون ورتبوها على ست مراتب وسموها اقداراً متزايدة سدساً حتى كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابياً وإلا فمظلماً، وذكر في الكفاية إن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض‏.‏ وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذراً من انتشار الضمائر ‏{‏للناظرين‏}‏ أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين، وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعاً للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ مطرود عن الخيرات، ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة، فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم، ويطلق أيضاً على الإهلاك والقتل الشنيع، والمراد بحفظها من الشيطان اما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قولبه تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَنْ استرق السمع‏}‏ متصل، وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع، وعلى التقديرين محل ‏{‏مِنْ‏}‏ النصب على الاستثناء، وجوز أبو البقاء‏.‏ والحوفي كونه في محل جر على أنه بدل ‏{‏مِن كُلّ شيطان‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 17‏]‏ بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بالا‏.‏

واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت‏.‏

ودفع بأنه في تأويل المنفى أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا، ولعل القائل بالبدلية لا يسلم ذلك، وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ الناس هلكى إلا العالمون ‏"‏ والخبر وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن «الانصاف» ضعف هذه البدلية كما لا يخفى‏.‏

وجوز أبو البقاء أيضاً أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ وذكر أن الفاء من أجل ان ‏{‏مِنْ‏}‏ موصول أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملا الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 10‏]‏ والمراد بالسمع المسموع، والشهاب على ما قال الراغب الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار‏.‏

وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض الصافي كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي، والمراد بمبين ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه للتعدية، وقيل‏:‏ اتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعاً وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب، ولما كان الاتباع محتملاً للاهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرح ويحرق ولا يقتل، وعن الحسن وطائفة أنه يقتل، وادعى أن الأول أصح، ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ إن الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطىء أبداً فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البراري، ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحاً؛ ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه‏.‏

أحدها أن انقضاص الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب‏.‏ وقد يبقى زماناً مشتعلاً إذا كان كثيفاً وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغط مشتعلة، وجاء أيضاً في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم‏:‏

والعير يلحقها الغبار وجحشها *** ينقض خلفهما انقضاض الكوكب

وقال أوس بن حجر‏:‏

وانقض كالدرى يتبعه *** نقع يثور تخاله طنبا

إلى غير ذلك‏.‏

وثانيها ان هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفاً من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم انهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطى شيء مراراً امتنع منه‏.‏

وثالثها أن يقال‏:‏ إن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفى أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم‏.‏

ورابعها ان الملائكم عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي، وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها‏؟‏

وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تخرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب‏؟‏

وسادسها أنكم قلتم‏:‏ إن هذا القذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏

وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركاتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب، وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال‏:‏ إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك‏؟‏

وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى الحلق الضرر بهم‏؟‏

وتاسعها لم لم يمنعهم الله تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب‏؟‏ وقال بعضهم‏:‏ أيضاً‏:‏ أن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم الله سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئاً، وأيضاً ان انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها، وأيضاً ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق

‏{‏كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏ والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال‏.‏ وأجاب الإمام عن الأول‏.‏ أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا قول ابن عباس، فقد روى عنه أنه قال‏:‏ «كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمي بها قبل ذلك فقال لهم إبليس‏:‏ ما هذا إلا لأمر حدث» الخبر‏.‏

وروى عن أبي كعب أنه قال‏:‏ «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها فرأت قريش ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنهامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال‏:‏ لم تفعلون‏؟‏ فقالوا‏:‏ رمى بالنجوم فقال‏:‏ اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال‏:‏ في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي» الخبر، وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعناً في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم‏.‏ وثانياً‏:‏ وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم‏.‏ يروى أنه قيل للزهري‏:‏ أكان يرمي في الجاهلية‏؟‏ قال‏:‏ نعم قيل‏:‏ أفرأيت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الان يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 9‏]‏ قال‏:‏ غلظ وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو هذا يخرج ما روى عن ابن عباس‏.‏ وأبى رضي الله تعالى عنهم إن صح‏.‏

وعن الثاني‏:‏ بأنه إذا جاء القدر عمى البصر فإذا قضى الله تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لها من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك‏.‏

وعن الثالث‏:‏ بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيماً‏.‏

وعن الرابع‏:‏ بأنه روى عن الزهري عن علي بن الحسين بن عليّ كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس قال‏:‏ بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا‏؟‏ ‏"‏

قالوا‏:‏ كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فإنها لا ترمي لموت أحد ولا لحيات ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم‏؟‏ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاءوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه»

وعن الخامس‏:‏ بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقول تبطل ما دونها‏.‏

وعن السادس‏:‏ بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلانها‏.‏

وعن السابع‏:‏ بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام‏.‏

وعن الثامن‏:‏ بأنه لعل الله تعالى أقدرهمعلى استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار‏.‏

وعن التاسع‏:‏ بأنه عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل‏.‏

وأجيب عن الثاني‏:‏ بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق الله تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه، وقد يختار عدم الانقطاع ويقال‏:‏ إنه تعالى شأنه قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الإجرام، وكذا هو سبحانه قادر على أسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى‏.‏

وعن الثالث‏:‏ بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك، أما الأول‏:‏ فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة؛ وأما الثاني‏:‏ فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة، وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثواب فوق السيارات كون كلها هناك لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا، وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه، على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنياً على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيهر فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والالتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام، وإما أن يكون مبنياً على مجرد الاستبعاد فهو مما لا يفيد شيئاً لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال‏:‏ نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه، والشهاب ليس نصاً في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل‏:‏ إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكانه لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمى بالنجم مثلاً‏.‏

وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمي بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال‏:‏ إنه يؤثر حيث كان بإذن الله تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء الله تعالى من الشياطين، وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم‏:‏ رمى بالنجم يحتمل أن يكون مبنياً على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس‏:‏ ‏{‏تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 86‏]‏ وقال الإمام‏:‏ إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلاً‏.‏ وأيضاً إن في جعلها رجوماً ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول‏:‏ كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهب من هذا القسم وحينئذ يزول الإشكال انتهى‏.‏

والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثاقب، وفي أجوبته السابقة رحمه الله تعالى ما لا يخفى ضعفه، وكذا شاهدة عليه بقلة الإطلاع على الأخبار الصحيحة المشهورة، ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة‏:‏ إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيماً فإنه مخالف لما نطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة، أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسمائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك، وأما مخالفته للثاني فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة‏:‏ أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها، والأفلاك عندهم مختلفة في الثخن، وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والأبعاد، وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم‏:‏ لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه‏.‏

وقوله في الجواب عن السادس‏:‏ إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة‏.‏ وقوله في الجواب عن الخامس‏:‏ إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر‏.‏

هذا ثم أعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذي عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه، ويشهد لهذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنهم قالت‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم ‏"‏ ولا ينافيه ما رواه أيضاً عن عكرمة أنه قال‏:‏ «سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله سبحانه كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ‏"‏ الخبر، إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض، وعدم منافاة هذا لذك ظاهر عند من ألقى السمع وهو شعيد، وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمى بنجم وأين هذا من ذاك‏؟‏ نعم في خبر الزخري ما يحتاج معه إلى تأمل، وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة، وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للاستراق في كل سنة مثلاً مرة، ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني‏.‏

ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفاً من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة، بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث‏.‏

ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك‏:‏ إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المضير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر إن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه‏.‏

وتعقبه بقوله‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيهرا فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وأن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلاً، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا، وهذا بخلاف حال المسافر في «البحر» فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود، ثم قال‏:‏ فالأقرب في الجواب أن نقول‏:‏ هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين اه‏.‏

وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى‏.‏

وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر‏.‏ أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها، وذكر عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏ أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك، ولا يخفى ما فيه، فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشارع المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع، وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشموال ‏{‏مِنْ‏}‏ شياطين الإنس من المنجمين وهو كما ترى‏.‏

وذكر هو‏.‏ وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها اه‏.‏

ومن الناس من ذهب أخذاً ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم بقي ههنا إشكال‏:‏ ذكره الإمام مع جوابه فقال‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً دالاً على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال، ولا يقال‏:‏ إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول‏:‏ هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولاً وبكون القرآن حقاً والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الأخبار عن الغيوب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال‏.‏ ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الاخبار عن الغيوب معجزاً ولا يلزم الدور اه فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والارض مددناها‏}‏ بسطناها، قال الحسن‏:‏ أخذ الله تعالى طينة فقال لها‏:‏ انبسطي فانبسطت، وعن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أن أم القرى مكة ونها دحيت الأرض وبسطت، وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ بسطناها على وجه الماء، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي، ونصب ‏{‏الارض‏}‏ على الحذف على شرطية التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16‏]‏ الخ وليواقف ما بعده أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي‏}‏ أي جبالاً ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وقد تقدم الكلام في ذلك‏.‏

وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعاى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال، ثم قال؛ وهذا الوجه ظاهر الاحتمال‏.‏ وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال ‏{‏وَأَنبَتْنَا فِيهَا‏}‏ أي في الأرض، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك‏.‏

وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلاً أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الانبات على إخراج المعادن بعيد ‏{‏مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ‏}‏ أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم‏:‏ كلام موزون، وأنشد المرتضى في درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة‏.‏

وحديث ألذه وهو مما *** تشتهيه النفوس يوزن وزناً

وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون‏:‏ قوام موزون أي متناسب معتدل، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة، وقال ابن زيد‏:‏ المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما، و‏{‏مِنْ‏}‏ كما في البحر للتبعيض، وقال الأخفش‏:‏ هي زائدة أي كل شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة‏.‏ وقرأ الأعرج‏.‏ وخارجة عن نافع بالهمز، قال ابن عطية‏:‏ والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائداً كياء شمائل وخبائث‏.‏ لكن لما كان الياء هنا مشابهاً للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس ‏{‏وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين‏}‏ عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان، ويجوز عطفه على محل ‏{‏لَكُمْ‏}‏ وجوز الكوفيون ويونس‏.‏ والأخفش‏.‏ وصححهع أبو حيان العطف على الضمير المجرور إن لم يعد الجار، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وقال الزجاج‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم الخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم، وقيل‏:‏ إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر، وقال أبو حيان‏:‏ لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيداً وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن مجاهد أن المراد ‏{‏بِمَنِ لَسْتُمْ‏}‏ الخ الدواب والأنعام، وعن منصور الوحش، وعن بعضهم ذاك والطير فمن على هذه الأقوال لما لا يعقل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّن شَىْء‏}‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ نافية و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للتأكيد و‏{‏شَىْء‏}‏ في محل الرفع على الابتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر دخولاً أولياً والاقتصار عليه قصور‏.‏ وزعم ابن جريج‏.‏ وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة‏.‏

‏{‏إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ الظرف خبر للمبتدأ و‏{‏خَزَائِنُهُ‏}‏ مرتفع به على أه فاعل لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفاس الأموال لا غير غلبت على ما قيل في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس، شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية قاله غير واحد، وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الاستعارة التمثيلية، والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، وقيل‏:‏ الأنسب أنه مثل لعلمه تعالى بكل معلوم، ووجه على ما قيل أنه يبقى ‏{‏شَىْء‏}‏ على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن ‏{‏عِندَ‏}‏ أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود‏.‏ وتعقب بأن كون المقدورات في خزان القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي، وقال قوم‏:‏ الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ فيها الأشياء وإن للريح مكاناً وللمطر مكاناً ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء ‏{‏وَمَا نُنَزّلُهُ‏}‏ أي نوجد وما نكون شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيء من الأشياء ‏{‏إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ أي إلا ملتبساً بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به‏.‏

وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال إنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره، فالأول‏:‏ لبيان سعة القدرة، والثاني‏:‏ لبيان بالغ الحكمة قاله مولانا شيخ الإسلام‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏وَمَا مُّجْرِمِينَ إِلا‏}‏ إلى رخره، وهي على ما في «البحر» قراءة تفيسر لمخالفتها لسواد المصحف، والأولى في التفسير ما ذكرنا، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل‏:‏ لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود، وهذا كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره جداً، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار‏.‏ واستدل بعض القائلين بشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ‏}‏ عطف على ‏{‏جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق، واللواقح جمع لاقح بمعنى حامل يقال‏:‏ ناقة لاقح أي حامل، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه، وقال الفراء‏:‏ إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل، وذهب إليه الراغب، ويقال لضدها ريح عقيم، وقال أبو عبيدة‏:‏ ‏{‏لَوَاقِحَ‏}‏ أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة مختبط مما تطيح الطوائح *** أي المطاوح جمع مطيحة، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعاً، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال‏:‏ يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة السحاب فتجعله كسفاً ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاماً ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏وَأَرْسَلْنَا الريح‏}‏ بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل ‏{‏لَوَاقِحَ‏}‏ حالاً منها وذلك كقولهم‏:‏ أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه في حديث ‏[‏اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً‏]‏ من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضاً نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 22‏]‏ أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحاً كثيرة فلا وجه له‏.‏

‏{‏فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء‏}‏ بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحاباً ماطراً ‏{‏مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ‏}‏ جعلناه لكم سقيا تسقون به مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معداً لهم ينتفعون به متى شاؤا، وقد فرق بين اسقي وسقى غير واحد فقد قال الأزهري‏:‏ العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار اسقيته أي جعلت شرباً له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة قالوا سقى ولم يقولوا أسقى، وقال أبو علي‏:‏ يقال سقيته حتى روى وأسقيته نهراً جعلته شرباً له، وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحاباً‏:‏

أقول وصوته مني بعيد *** يحط اللث من قلل الجبال سقى قومي بني نجد وأسقى

نميراً والقبائل من هلال *** فإنه لا يريد بسقي قومي ما يروى عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى ولغيرهم ما يخصبون به، ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقى في سقيا الشفعة قول ذي الرمة‏:‏

وأسقيه حتى كاد مما أبثه *** يكلمني أحجاره وملاعبه

قال الإمام‏:‏ لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقى، هذا وقد جاء الضمير هنا متصلاً بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثلك ذلك وجوب الاتصال‏.‏

‏{‏فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين‏}‏ نفي سبحانه عنهم ما أثبته لجنابة بقوله جل جلاله‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ قيل‏:‏ نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين، وقيل‏:‏ المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء‏.‏